حين نشرتْ جدلية أولى مقالاتها لم تكن التغيرات السياسية التي عصفتْ بالشرق الأوسط في أواخر 2010 قد بدأت بعد. وحالما بدأت تلك الأحداث وتحولاتها الناتجة كانت جدلية في موقع مثالي كي تعكس وتفسّر وتسهم في النقاشات حول هذه التغيرات في كل من الشرق الأوسط والغرب. وكان أحد الأسباب الرئيسية لصعود جدلية هو قدرتها على تقديم محتوى نقدي عميق ودقيق في ذلك الوقت الحاسم، باللغتين العربية والإنجليزية. وفي السنوات القليلة التي تلت لم تكن جدلية مجرد قناة للتحليل فحسب بل صارت أيضاً منبراً عضوياً فاعلاً للأصوات المعبأة على هوامش الخطاب العام. ولقد قدمنا أحد الفضاءات القليلة كي نشكك ب”الخبراء” واعتبارهم المصدر الوحيد للمعرفة.
وفي الأعوام الستة الأخيرة، كان محررو جدلية وكثير من كتابها، كشعوب الشرق الأوسط، في حالة غير مستقرة من الأمل واليأس الشديدين. وبعد فورة أولية، خابت الآمال وتراجعت الإمكانيات الخيالية، بعد أن ألقت الوقائع الدموية في ليبيا وسوريا واليمن وقطاع غزة (وبالطبع صعود الدولة الإسلامية) ظلالها على الوعد الأولي لتونس ومصر. وبعد أن هيمنت على الصراعات من أجل العدالة الاجتماعية في المنطقة في أواخر 2010 قوى مضادة للثورة في حالة صعود، واجهت جدلية ركوداً على صعيد تلقي المواد النقدية والفكرية العميقة. وقد كان الدافع للكتابة والتوثيق في أزمنة الأمل في ارتفاع قياسي، في جدلية وفي كل مكان. وبعد أن صار الشرق الأوسط ميداناً للحروب والقمع والتطهير العرقي من كافة الجهات قلّت كتابة كثير من المحللين والباحثين، ولجأوا إلى الصمت كي يستوعبوا نقدياً، لا أن يشرحوا الحقائق المتغيرة بسرعة والأوضاع الكارثية والمحطمة للقلب على الأرض. وقد جعل هذا عملنا أكثر صعوبة ليس فقط من ناحية دعم وتوسيع انخراطنا والتزامنا في تقديم التحليل النقدي حول الحالات الأكثر إلحاحاً.
مع ذلك، هناك حاجة ماسة من أجل التحليل النقدي عن ومن المنطقة، خصوصاً في وقت تخلى فيه إعلام التيار الرئيسي عن اهتمامه (القصير الأمد) بتطلعات شعوب المنطقة كجزء من تغطيته الاحتفالية (أحياناً المفرطة) للانتفاضات العربية. لهذا نحن نقوم هذا العام ببذل جهد متواصل مع المنظمات الشقيقة لجدلية (هنا) كي ننتج دورة أخرى من التحليلات العميقة حول التحول العنيف وأحياناً الرجعي للانتفاضات.
الإعلام يهم
عاد كثيرٌ من المحللين الآن إلى التركيز التقليدي على “التهديدات” في المنطقة لمصالح الأمن القومي الأميركي والأوربي الغربي كالعنف والردكلة أو اللاجئين. فضلاً عن ذلك، إن كثيراً من المنابر التي تهدف إلى تقديم منظورات نقدية صرفة من المنطقة مُسيّسة بشكل عميق إما من خلال مصادر تمويلها أو ولاءاتها السياسية بحيث صارت جزءاً من المشكلة من زاوية إنتاج المعرفة. إن الترابط بين العسكرة والبترودولار يُعرّف معظم وسائل إعلام التيار الرئيسي وحتى بعض الإعلام البديل في المنطقة. ثمة توجه سائد إلى المعايير المزدوجة في التغطية الإعلامية التي تقدمها هذه المنابر يسرق من الجماهير التحليل العميق والكلي. وسواء كان يتحدث عن سوريا بشكل غير دقيق أو يتجاهل اليمن تماماً، ويتجنب نقد السعودية أو يهلل للعسكرة في مصر، أو إذا كان يجمّل الاستبداد في الأردن أو ينسى فلسطين، فإن حالة المعرفة التي ينتجها هذا الإعلام عن المنطقة هي في الحقيقة بالغة السوء.
في هذا المفصل الحيوي بشكل خاص قررنا ألا نخضع للقيم التي يشجعها السوق والتي هي مزيد من الإنتاج بجودة مخفضة. بدلاً من ذلك، اتبعنا سياسة على النقيض تماماً. فمن خلال تركيزنا على الجودة خففنا من حجم المحتوى الكلي في جدلية. إن ضرورات السوق والشركات ستعتبر هذا القرار مخالفاً للحس العام، لكننا كمنبر مستقل ونقدي تكمن نزاهته بشكل كبير في جودة إنتاجه، لم نكن مهتمين في التحول إلى “التغطية الإعلامية”، بل كان هدفنا هو “تغطية” كل شيء في المنطقة، من أجل أن نقدم تحليلاً هادفاً حول مسائل نمتلك معرفة مميزة بها ونمتلك القدرة على التحدث عنها. وعبر رفضنا أن نكون بيادق في “عبادة الخبرة” المتنامية حول كل شيء يتعلق بالمنطقة، تجنبنا تحويل جدلية إلى مجلة مختصة بكل شيء وخاضعة لمعايير السوق.
بالرغم من اليأس الجمعي وتراجع الحركات الاجتماعية من أجل العدالة في المنطقة، فإن الناشطين والباحثين والمفكرين في ومن الشرق الأوسط يواصلون النظر إلى جدلية باحترام بأنها أحد تلك المنابر القليلة التي يقرأون فيها ويتعلمون منها عن الصراع القائم من أجل الحرية والكرامة. إن هذا الصراع الذي وحّدنا منذ ست سنوات، يواصل توحيدنا اليوم. لهذا نعتبر الطور الحالي جوهرياً جداً. في هذا المجال، نحن مدينون بشكل خاص لقائمة كتابنا المتنامية باستمرار، وكلهم بذلوا الجهود وقدموا أبحاثهم وتحليلاتهم، دون مكافأة.
[إن المؤسسة الصيفية لمشروع الاقتصاد السياسي هي جزء من مشروع تعليمي أكبر. اضغط في الأسفل من أجل المزيد]
مبادرة تعليمية
لهذا السبب ننوي أن نركز انتباهنا على أولويتنا الأكبر كمدرسين. ومن أجل وضع إنتاج المعرفة حول المنطقة في سياق تاريخي وطبيعي وإعادة تشكيله ستعمل جدلية على أن تكون مصدراً ونقطة انطلاق للبحث الاستقصائى، ولهذا السبب سنسميها “دورة جدلية التعليمية”. قمنا بهذا منذ ثلاث سنوات من خلال جادماغ (وهي منشورات قصيرة ومركزة حول موضوعات معينة) والمجلة الصوتية الوضع\\Status (وهي قاعدة بيانات سمعية بصرية من المحاضرات والبرامج والمؤتمرات والندوات والمشاغل)، والمزيد من التعاون مع منظمتنا الشقيقة تدوين للنشر (التي تنتج كتباً مستمدة من المقالات المنشورة في جدلية وغيرها) لكن مرحلتنا التالية ستوحد هذه الجهود والجهود الإضافية الأخرى تحت اسم المبادرة التعليمية لدراسات الشرق الأوسط. وبمعنى ما، نهدف إلى أن نصبح منبراً ليس فقط للتفكير النقدي على الإنترنت - مبرر وجودنا - لكن أيضاً كي نرعى أعمال الأكادميين والناشطين والفنانين والصحفيين من خلال إبداع فضاء تتفاعل فيه هذه الأصوات. نحن عازمون على فعل هذا فيما نقاوم رمزية وتفاضلية وقمع الإجماع. ونأمل أن يواصل المحتوى الذي ننشره في جدلية تحدي هيمنة الأصوات “المرجعية” وأن يوسع قدرتنا على تقديم سلسلة من الأصوات من المنطقة.
[عددنا الأخير من مجلة الدراسات العربية صدر هذا الأسبوع. اضغط على الرابط من أجل المزيد]
أرضنا الصلبة
ننشر هذه الأيام تحليلات مباشرة للأحداث وكذلك مقالات بحثية أطول. ويقدم لنا هذا مرونة كي نعلق على الأحداث الحالية بطريقة نقدية وعميقة دون التضحية بحساسيتنا وإخلاصنا لمقالات تحليلية قائمة على بحث جيد، والعكس هو الصحيح. إن جدلية هي أيضاً منبر خيار لسلسلة واسعة من الإنتاجات، من مقابلات إلى عروض كتب ومختارات من الصحافة والمراجعات والصور وعروض الكتب. وبينما ليس من السهل الاستمرار في تقديم جدول متدفق من الأعمال المدهشة في إطار منظمة قائمة على العمل التطوعي (ولا تدفع مقابل المحتوى)، تمكنّا من أن نقدم لقرائنا مادة متماسكة ومفيدة في السنوات الست الماضية، بالإنكليزية والعربية، وفي بعض الأحيان بالتركية والفرنسية. ومن الواضح أن نتاجنا بالإنكليزية تباطأ منذ أن تراجعت فورة الانتفاضات، إلا أن نتاجنا بالعربية ازدهر. ففي السنوات الثلاث الماضية، تمكنا من جذب الكثير من القراء في المنطقة من خلال تقديم المادة الثقافية النقدية. والحقيقة أن قاعدة جمهورنا واسعة النطاق ونتاجنا متنوع بحيث لا يتسع المجال للحديث عنه هنا.
وفي الشهور والأعوام القادمة سنجعل هذا مرئياً من خلال موقع إلكتروني جديد، وسطح بينيّ متاح تكنولوجياً أكثر، وإحساس متجدد بالهدف الذي سيستند إلى مشاريعنا الأخرى، ومنها مشروع إنتاج المعرفة، وهو مهمة ضخمة سنعلن عنها في مؤتمر ميسا في بوسطن، ٢٠١٦.
سنبني أيضاً على العدد الضخم من شبكات الباحثين والناشطين الذين جمعناهم معاً كجزء من مشاريع وورش مختلفة مع منظمتنا الشقيقة فاما (منتدى الشؤون العربية والإسلامية). إن كثيراً من قرائنا سيتم تعريفهم بشكل أكمل على إنتاجنا السمعي البصري الذي ترعاه كيلتنغ بوينت. أخيراً، سنستفيد من الجهد البحثي المهم جداً والشبكات المرتبطة به والذي تقدمه مجلة الدراسات العربية.
[إصداراتنا الجديدة من “تدوين للنشر”. اضغط الرابط في الأسفل]
العودة إلى الأساسيات
إن التزامنا المستمر بالتفكير والكتابة عن الشرق الأوسط من إطار عابر للقومية يسمح بتسليط الضوء أكثر على الوشائج الداخلية وخصوصيات مجتمعات المنطقة وأنظمتها السياسية واقتصاداتها. ومن بين الأمور الكثيرة التي ميزت جدلية العصب البصري الذي يسمح لنا بأن نرى المآزق والاحتمالات بشكل عابر للقومية. إن إزالة الحدود بين الحركات الاجتماعية العابرة للقومية، والإنتاج الثقافي، والأطر التحليلية (بما فيه الاستعمار الاستيطاني،الاقتصاد السياسي، ومعاداة السود، دون أن يقتصر الأمر على ذلك) سيواصل تمييزنا. من ناحية أخرى، إن تغطية تيار الإعلام الرئيسي للمنطقة منذ 2010 انتقل من الدهشة والحماس إلى تغطية سطحية تلجأ إلى أطر وكليشيهات هيمنت لوقت طويل على التغطية الإعلامية للشرق الأوسط، لا ترى الأشياء إلا من خلال عدسة الإرهاب والصراع الاثني - الطائفي والدين والجيوبوليتيكا وأمن الطاقة.
حاولنا، طيلة ست سنوات، أن نقاوم هذه الخلفية من خلال جعل النقاشات حول المنطقة أكثرإشكالية وتعقيداً ومحلية بطريقة تتحدى النبرات التشاؤمية الساذجة والسطحية والعفوية. وسنواصل تقديم نوع مختلف من التحليل بما أن فهم المنطقة يحتاج إلى تغطية إعلامية عميقة ودقيقة ومتأصلة ومجتهدة وحساسة وليس تلك التي تظهر حين تحدث جائحة ثم تختفي.
حاولنا، طيلة ست سنوات، أن نلقي الضوء على تعقيدات الحركات الثورية وبيئاتها وتداعياتها. وبحثنا، لست سنوات، عن طرق جديدة في التحليل كي نصقل على نحو أفضل الوقائع الجديدة التي تواصل البزوغ. وطيلة ست سنوات، كانت جدلية منبراً لنقاش عن المنطقة مستقل ونقدي وعميق.
وبمناسبة هذه الذكرى، نعدُ قراءنا بأن نضاعف الجهود في التركيز على مهمتنا الجوهرية كي نقدم تحليلاً أفضل وتغطية أدق وأعمق حول الشرق الأوسط وغيره.
بعد ست سنوات، نعتقد أن جدلية ستظل جوهرية كما دوماً.
[انضم إلينا لإطلاق مشروع إنتاج المعرفة ومشروعات أخرى لمؤسسة الدراسات العربية]